في مدرسة "دار السلام" وسط ساحة النجمة، قلب العاصمة دمشق، أمضيت كل فترة دراستي. من عمر الرابعة وحتى الثامنة عشر. كانت واحدة من أفضل المدارس الخاصة. طلابها ينتمون إلى عائلات ميسورة. تجار، مسؤولون، وما كان يسمى آنذاك بـ "الطبقة الوسطى". في المدرسة ذاتها، درست إبنة خالتي التي تكبرني عشرين عاماً. الكثير من أساتذتها في المرحلتين الإعدادية والثانوية، كان لايزال يمارس مهنته. معظم معلماتها اللواتي كن يأتين إلى المدرسة بالتنانير القصيرة، صرن محجبات لاحقاً.
نصل إلى المدرسة عند الثامنة إلا ربع. معلّمة "الفتوة" أو مادة "التربية العسكرية"، تقف أمام الباب الخارجي. تراقب البنات وهنّ ينزلن من الباصات الملونة. قصيرة القامة. ممتلئة. شعرها المصفف دائماً أسود، ناعم، غزير، ينهمر على كتفين صغيرين. عيناها سوداوان، تسيل من اتساعهما شراسة مفرطة. تقف بصرامة. ظهرها مشدود. كفاها مضمومان كأنها تؤدي تحية العلم. لا يفوتها أي تفصيل. إدراكها يستوعب كل البنات اللواتي يهبطن درج الباص باتجاه المدرسة. البنات اللواتي تدور بينهن أحاديث صباحية في الباص على أنغام فيروز، تضيق المسافة بين أعينهن ويصبحن عابسات ما أن ينزلن من الباص ويمشين باتجاه باب المدرسة الصغير. الآنسة ن. لا يفوتها أي تفصيل. تسرق الابتسامة من أفواه الطالبات، تنتزعها، تشدّها وتحتفظ بها في مكان نجهله جميعاً. الضحك ممنوع. والتبسّم كذلك. نظراتها مؤنبة. الطالبات مذنبات حتى يثبت العكس. والموضوع لا يقبل المزاح. صفعة مهينة من هنا، شدّ شعر من هناك. زوجها شهيد، بطل. وهل تكون زوجات الشهداء قاسيات إلى هذا الحد؟ كنت أتساءل. ممنوع أن تضع إحدى الطالبات يديها في جيبي المعطف، لأن ذلك يعني بالتأكيد أنها تخفي أظافرها الطويلة أو الملونة. الشعر مربوط دائماً. ولون الشريطة يجب أن يكون أسودَ. "الجدايل" ممنوعة.
أن نفلت من يدي الآنسة ن.، كان إنجازاً صباحياً يثير الإعجاب بالنفس. نتجمع في الباحة الكبيرة. نقف على شكل أرتال منظمة بعناية. نؤدي "تحية الصباح" بملابسنا العسكرية. بنطال وسترة لونهما كاكي. زنار يلف خصورنا نطلق عليه إسم "النطاق". على أكتافنا تمتد شرائط صفراء أو حمراء تدلّ على المرحلة الدراسية لكنها تشبه إلى حد بعيد رتب الضباط. تمسك الآنسة ن. بالميكروفون كأي مغنٍ محترف. تبدأ بالصراخ. الصوت لايزال عالقاً بذاكرتي. "استعد" تقولها بتاء مفتوحة فتصبح: استاعد. نباعد أقدامنا اليمنى قليلاً بوضعية الاستعداد للـ "المعركة". ثم "استرح" أيضاً بتاء مفتوحة. نرجع أقدامنا اليمنى ونضمها إلى اليسرى بوضعية الاستراحة. "ترادف". نرفع اليد اليسرى ونضعها بشكل مستقيم على كتف الطالبة التي تقف أمامنا. اليد يجب أن تكون مشدودة وثابتة. وهنا أيضاً الموضوع لا يحتمل مزاحاً على الإطلاق. "أمة عربية واحدة"، تصرخ ن. نجيبها بصراخ مبالغ به لإرضائها: ذات رسالة خالدة. "أهدافنا"، تصرخ من جديد. فنصرخ بدورنا: وحدة، حرية، اشتراكية. "قائدنا إلى الأبد". نجيبها: الرفيق حافظ الأسد. ثم نؤدي تحية العلم وويل لمن لا يغني أو لمن يدّعي الغناء. يرنّ الجرس. نركض باتجاه الدرج الكبير لندلف إلى صفوفنا الباردة والكئيبة.